أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

تظاهرة شاو الربيع أو ثافسوث.. تقليد جزائري ربيعي مزهر

 تظاهرة  شاو الربيع أو ثافسوث.. تقليد جزائري ربيعي مزهر 

مقال ليلى جبارة

خلال أواخر شهر فبراير/ شباط  وفي الأسابيع الأولى لشهر مارس/ آذار من كل عام، تخرج العائلات الجزائرية في مختلف ربوع الوطن لاستقبال فصل الربيع كتقليد شعبي شائع يعد موروثا ثقافيا اجتماعيا وتاريخيا تناقلته الأجيال، وأطلقت عليه عدة تسميات على اختلاف اللهجات المحلية، فكل من ثافسوت أو الربيع الربعاني يعد مناسبة سعيدة يتم إحياؤها وفق عادات طبية وتقاليد عريقة. 



شاو الربيع الربعاني .. ترانيم ربيعية جزائرية بامتياز 


في ولايات الشرق الجزائري وعلى رأسها ولايتي سطيف وبرج بوعريريج يُعلن قدوم الربيع بكلمات ترحيبية يتغنى بها الكبار والصغار على مدار اليوم  مرددين "شاو الربيع الربعاني.. كل عام تلقاني.. أنأ وأمّا وأخياني.. في الجنان الفوقاني"، ومعناها " السبق (البدء) للربيع الذي سيتربع فيه الناس ويجلسون على البساط الأخضر الطبيعي..وكل عام يعود إلينا سيجدني مع أمي وإخوتي في البستان العلوي"، وهذا للتأكيد على بداية فصل الربيع وخصوبة أرض المنطقة ولمّها لشمل العائلة بصحة وهناء، وفي تقدم وعلو توسما بتحقيق نجاحات مستقبلا ومن أجل موسم حصاد وفير ومردود جيد وهذا ما يوافق ذكر الجنان العلوي. 


فبعد فصل بارد ميزته الظروف المناخية القاسية من أمطار غزيرة وثلوج متهاطلة حالت دون الخروج والاستمتاع في أحضان الطبيعة حان الوقت لتعود العائلات للتنزه بحلول الربيع المبتسم فتنعكس البهجة على وجوه الناس ويسارعون لاستقباله حاملين معهم ما تجود به الأراضي الفلاحية من خيرات متفائلين بموسم زراعي مثمر وناجح. 


قفة الربيع .. مأكولات للجميع 


يخرج سكان المداشر والقرى للأراضي الخضراء وحتى من المدن يتوجه الأهالي للأرياف والمساحات المزروعة أين يسيحون في سعة الطبيعة  الغناء، حاملين معهم سلالا مليئة بالأطعمة أو ما يسمى بقفة الربيع. 


هذه القفة هي في الأصل سلة تقليدية مصنوعة من الدوم ونبات الحلفاء، أما في الصحراء فتصنع من سعف الجريد أي أوراق النخيل، وفي العادة تكون بلون واحد وهو أصفر ترابي باهت ولكن بعض الحرفيين يفضلون زركشتها بالألوان مثل الوردي والبنفسجي والأخضر. 



وتعد القفة  حافظة صحية  للغذاء لأنها مصنوعة من مواد طبيعية ويمكن استعمالها لسنوات طويلة دون أن يطالها التلف أو تنشأ بها الفطريات، إنها أفضل بكثير من أكياس البلاستيك المسرطنة. 


لقد تم وضع لمسات عصرية على القفة الأصلية وأضيفت لها أشرطة للزينة وورود قماشية مع تغطيتها بمنديل مطرز عليه شرائط ملونة لحفظ ما بداخلها من محتويات بعدما تم انتقاؤها بعناية تفاؤلا بموسم جيد. 


تتوفر قفة الربيع بأحجام مختلفة منها ما يكون كبير الحجم ليحوي كمية كافية من المأكولات التقليدية فضلا عن العسل، الجبن، اللبن، التمر، البيض المسلوق والماء. 


أما القفة الصغيرة فتكون من نصيب الأطفال بما ضمته من فاكهة موسمية مثل البرتقال والتفاح، ومختلف الحلويات والشوكولاتة والمكسرات إذ تقدم كهدايا  يأكلونها وهم يرددون أغاني الربيع الجميلة. 



البراج .. ثعنونت.. ثمقفولت  وصفات تقليدية حاضرة  


تهتم النساء في البيوت بإعداد أكلات شعبية تقليدية تتناسب مع تقاليد كل منطقة، منها لبراج (المبرجة) والرفيس، والخبز المنزلي مثل الكسرة والمطلوع، بالإضافة إلى بعض الأطباق المحلية. 


فالمبرجة أكلة مميزة مفيدة وغنية يدخل في صنعها الدقيق، التمر والزبدة، السمن أو الزيت، وتتوفر هذه اللوازم في السوق بكثرة خلال الأيام الأخيرة من شهر فبراير/ شباظ، كما أن طريقة تحضيرها سهلة وسريعة، وجل العائلات الجزائرية تحسن صنعها، لكنها تظل سيدة مائدة أناس مدينة برج بوعريريج وترتبط بدخول فصل الربيع ارتباطا وثيقا، إذ يمكن تناولها في الخرجات منفردة كما تقدم مع اللبن، أو مع الشاي أو القهوة بالحليب. 


أما الشاوية فيهتمون بتحضير "ثعنونت نتفسوث " أي "كسرة الربيع" وهي خبز منزلي شهي، في حين أن نصيب القبائل من الوليمة يكون بإعداد طبق ثمقفولت وهو أكلة محلية أساسها الكسكس المدهون بزيت الزيتون والمخلوط بالخضر المطهوة على البخار (المفورة) والمزين بالبيض المسلوق ويقدم مع اللبن أوالرائب. 


تتناول الأسر الطعام سويا إذ تتبادل فيما بينها المأكولات، وتستمتع بتذوق الحلويات التقليدية مع شرب اللبن أو الشاي، أين يجتمع جميع الأفراد صغارا وكبارا وكلهم فرح بهده المناسبة السعيدة لتجديد روح التضامن وتأكيدا على مظاهر التكافل الاجتماعي والتواصل الطيب  بصلة الأرحام وحسن الجوار. 


تكون الأحاديث متنوعة ويعرض فيها الأهل والأحباب مستجداتهم، كما يهتمون بسماع ما بقي عالقا في ذاكرة الجدات من حكايات عن التقاليد، العادات والتراث الذي يعد جزء من حياتهم الاجتماعية. 


فلا توجد فوارق ولا تمييز والجميع مدعو للمشاركة في هذا الحدث البهيج الذي يصحبه النشاط والهمة العالية. 


منافع خيرات الربيع 


خلال هذه الفترة من السنة يهتم البعض بجمع الأعشاب المغذية والطبية النادرة التي لا تنبت إلا خلال هذا الموسم، فمثلا في منطقة وادي ميزاب (دي ييغزرن مزاب) تقوم الأمهات بجمع حشائش طبية و غذائية كالنعناع والحبق وتنظفنه ثم تجففنه وتحتفظن به للشتاء المقبل. 


كما يخزن الثوم و البصل عن طريق تعليقه في مكان جاف و مظلم ويسمى العولة لاستخدامه وقت الحاجة. 


ومن جهتهم يشرع الفلاحون في عملية التلقيح اليدوي للنخيل الأنثوي بوضع الطلع الذكري داخل الزهر الأنثوي، دون الاعتماد على التلقيح الطبيعي بواسطة الريح وخاصة الريح الترابي حسب توضيحات السكان المحليين.  


وفي الوقت ذاته يتم قطف الزهور لإهدائها للأحبة وعند جفافها تصنع منها أزكى العطور التقليدية الطبيعية، أو تضاف كمكونات لغسل الشعر أو لإعداد مشروبات صحية لذيذة. 


هو تقليد جميل يتكرر كل سنة حيث تخرج العائلات من الصباح الباكر قاصدة المروج الخضراء، الغابات، الحقول والمزارع للاستمتاع بالتنزه والتجوال وسط مناظر طبيعية خلابة مع جو دافئ  للترويح عن النفس ولا تكون العودة إلا في آخر ساعات اليوم، لتظل تظاهرة استقبال الربيع حاضرة بكل ما تحمله من خيرات مادية ومظاهر انسانية تدل على القيم الحضارية  الضاربة في عمق تاريخ للمجتمع الجزائري الأصيل. 

تعليقات