أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

ذكريات مرت من هنا.. إخوتي وأنا

 ذكريات مرت من هنا.. إخوتي وأنا 


ذكريات مرت من هنا.. إخوتي وأنا


مقال ليلى جبارة

ذكريات تبهجني كلما استذكرتها وأعدت عيشها لحظة بلحظة حتى لا تصير مجرد أحداث عابرة، تمر علي مجددا لتترك أثرا يُذكر بشوق وفخر يشوبه الحنين، لتشكل جزء هاما من تاريخي الحافل بالمغامرات والحكايا التي غيرت مجرى حياتي..  

خواطر وافدة على كياني تجعلني أنتشي وأحن لزمن مضى بين توجيهات إخوتي ومشاركتهم الأعمال إلى مناوشاتهم وليالي السّمر بالأحاجي وغيرها من أنماط التسلية، أين نلت أجمل الأوقات وأحلى الصور، كنا نتقاسم الدفء والعبء ونستمتع بشذرات المواقف الطريفة ونخفف عن بعضنا وطأة النوائب، مما جعل السمات العاطفية تسم أسرتنا البسيطة، لتتعزز جسور التعاون الممدودة من والدينا منذ السنوات الأولى.. 

مضت الأيام على عجل ووضعتنا الظروف أمام خيارات فيها مصالح وقناعات، يمكن أن ينتقدها البعض ظنا منهم أن هناك فرصة لتدارك ما فات أو لإعادة صياغة المشاريع وتعديل المسار، في حين يراها مريدوها أنها فتح منفذ على واجهة لم يطل منها الآخرون، ولكل حياة جديدة خاصة صنعتها دهشة البدايات وحماستها، لكنها تظل ممدودة بحبل الود لما قبلها... 


مهما بعدت المسافة وتفرقت السبل واختلفت وجهات النظر وتباينت الآراء يبقى الأصل واحدا والمبدأ موحدا والخلفية واحدة، ولكنها الأقدار التي تشعبت مساراتها، فالعبد في التفكير والرب في التدبير، والخالق لا يضيع أجر كل عامل. 


فأختايا الكبيرتان مثال للاجتهاد وتحمل المسؤولية، وبمبرر الأقدمية والاعتياد ظل سيناريو رعاية جميع أفراد الأسرة ومساعدتهم يتكرر كل لحظة من لحظات حياتنا؛ أذكر جيدا كيف كانتا تخيطان ملابس العيد والدخول المدرسي، مازالت تحضرني صورة الفستان الملكي الذي خاطته أختي الثانية لي تقليدا لفستان السندريلا نقلا عن قصتها المصورة ومن قماش الشركة الوطنية للنسيج "سونيتكس" التي كان يعمل بها والدي – أكرم الله مثواه-،  كان الزي فخما خامة وتصميما، ارتديته بأناقة وغبطة فظن كل من رآه أنني اقتنيته من محلات العلامات التجارية الرائدة في الملابس، وبتفاخر أصرح أنه من خياطة أختي التي لم تلتحق بمركز لتعليم الخياطة ولم تتعلم على يد أحد فهي موهوبة بالفطرة، كنت منبهرة بها، أطبق تعاليمها حرفيا بين الرغبة والرهبة فلا أخفي سرا أني كنت أخشى أن تغضب مني وأخاف وعيدها الذي أقول عنه أنه في صالحي، فهي تعرف مصلحتي أكثر مني، وكنت أثق بها ثقة عمياء وأراها قدوة للتفوق لاسيما نجاحها في الدراسة بدرجة الامتياز، لتنال لاحقا أعلى الدرجات العلمية على المستوى العالمي، وتقدم خدمات جليلة للإنسانية في مجال الطب والصيدلة لمحاربة السرطان والأيدز.. 


وفي الوقت ذاته كنا نستمتع بأشهى الحلويات والمرطبات  والتي كانت أسعارها مرتفعة ولا يشتريها الناس إلا في المناسبات والأعياد، في حين كنا نحظى بها على مدار السنة، لأن أختي الأولى بارعة في تحضيرها، فطعم كعكة الشوكولاتة الاسفنجية بالزينة القشدية لا يقاوم، يحسب من يتناولها أنها من محل مختص في صناعة الحلويات الراقية، فكنت أهرع لاقتناء اللوازم بسعادة وفرح كلما قالت أنها ستحضرها، إلى جانب مهارتها العالية في إنجاز الأعمال المنزلية يوميا ولم يمنعها ذلك لتكون الأولى في صفها على الدوام وتصير طبيبة مختصة متميزة، كنت أسألها بفضول هل يمكن أن أتكلم الفرنسية بطلاقة مثلك عندما أجتاز امتحان شهادة البكالوريا فترد بتحفيز: بالطبع نعم .. فالأمر سهل جدا..ومن هنا كان لزاما علي التعلم والاجتهاد والتفوق في الدراسة واكتساب مهارات منهما أولها مهارة المسؤولية تجاه الوالدين الرائعين، ومساعدتهما حبا وكرامة في تخفيف أعباء الحياة برمتها ومساعدة إخوتي والأقارب وحتى الجيران والأصدقاء..وهكذا. 

ولم يقل دور أخي الأكبر محمد –طيب الله ثراه- عنهما في تعليمي كيف أختار، ومن الأفضل، لقد كان موسوعة حقيقية كلما استعصى علي فهم أمر إلا وقصدته ليزيل الغموض، أذكر كم بحثت طويلا عن معلومات تخص مثلث برمودة ليعطيني ملخصا شاملا في عجالة مازلت لحد الساعة أحفظه... لقد رحل باكرا وتركني أدين له بما علمني، هو معلمي المثابر الذي فطمني على عقيدة التوحيد الصحيحة ووسم قلبي بحب الالتزام، ومن مصروفه الخاص وعمله في العطل المدرسية جهز في بيتنا مكتبة خاصة لأمهات الكتب النفيسة وكنوز العلم والمعرفة، لم يدخر جهدا في توجيهي لخط أولى الحروف ليلقنني فنون الشعر ويغوص معي في أعماق بحوره الممتدة، لقد زرع في نفسي المبادئ والأخلاق والقيم بمواقفه الإنسانية وبصماته المضيئة في مختلف الميادين، إنه الأب الروحي ملك النوازع البشرية قبل أن يكون الأخ الأكبر، أذكر جيدا يوم رافقني أول مرة إلى المدرسة، وللأسف لم يكن هناك يوم تخرجي رحمة الله ونوره ينزلان عليه، لكن ذكره مازال حيا بين الخلائق كيف لا وقد كان طبيب جسد وروح بمؤهلات علمية أكاديمية وكفاءة واقعية احترافية. 

أما أختي الأخرى فقد كانت متقلبة المزاج حدثت بيننا الكثير من المواقف حملت بعضها لسنوات لكني في النهاية أدركت أنها كانت مجرد اختلافات في الرؤى قد تغطي عليها اللحظات الجميلة التي قضيناها معا في الريف أيام العطل وكيف كانت تهتم بتمشيط شعري وتصحبني في جولات قصيرة في الحي وهي تنبهني بصرامة وتحذرني من اتساخ ملابسي عند اللعب أو الاقتراب من الأماكن الملوثة ولم يكن ذلك إساءة إنما مجرد حرص وقسوة غير مقصودة، ولهذا لاقت بها مهنة التدريس وكسبت حب تلاميذها وأوليائهم، وأخذت منها بدوري دروس دعم لتجديد العلاقة بذكر جميل يمحو أثر كل شيء عالق.. 

أخي الآخر طيب جدا، متواضع ومتسامح، كثيرا ما كنت أتشبث بقدمه لكي أذهب معه في نزهاته الكثيرة، كان مولعا بالعصافير، يصطادها يقتنيها ويهتم بتربيتها، يمكنه معرفة نوع العصفور وعمره وحالته الصحية والنفسية بمجرد الاقتراب منه، كان يهيم بها لحد الهوس مما كان يثير استياء والدي –رحمة الله عليه- ويطلب منه التقليل من هذا الاهتمام الزائد، وعادة ما يحضر للبيت صيصانا وأسماكا صغيرة ويا للجو الممتع الذي كان يخلقه وجود حيوانات في بيتنا، فضلا عن كونه نشطا في انجاز بعض الأعمال مثل تصليح الكهرباء، والأجهزة الكهرو منزلية والالكترونية، والسيارات، ومختلف الآلات، فكنا نلقبه بـ"ماك غايفر" نسبة إلى سلسلة تلفزيونية كان يتابعها إخوتي وبطلها مخترع يجد الحلول العملية والعملية دائما، وكم ذا ساعدني في إنجاز المشاريع المدرسية، لقد نلت العلامة الكاملة عن مشروع ملعب كرة السلة الذي عملنا عليه معا، كما لا أنسى كم من الحكايات المرعبة والمغامرات الخيالية التي كان يرويها لي وأنا أصدقها وأحبس أنفاسي عند سماعها، وأستذكر بعض أحداثها قبل النوم فأبقى مستيقظة من شدة الخوف، لقد كانت قصصا جميلة مازالت تفاصيلها عالقة في ذاكرتي، ولحد الآن مازال يمتعني بإرسال صور مدهشة وتصميمات قصور ومبان فخمة وحدائق غناء في بلاد الأندلس. 

ولي أخ لا أعرف ملامحه إلا من الصور لكنه كان يحبني كثيرا حسب ما أخبرتني والدتي لهذا أحببته وأحببت الحديث عنه، لقد رحل هو الآخر بعمر الثامنة بعد صراع مرير مع مرض سرطان الدماغ –تغمد الله روحه بالرحمة-، وكنت أنظر إلى بيت الجيران الكبير بطوابقه العالية وأشير إلى السماء فوقه وأقول أن حكيم هناك، وأغتبط لما أسمع أنه مع سيدنا إبراهيم الخليل -عليه السلام- رفقة أطفال المسلمين الذين ماتوا صغارا وأنتظر يوم ألتقي به. 

أما أخي الذي أعقبه في الترتيب فقد أمضيت أيام طفولتي معه في المناوشات الدائمة، إذ لا يفوت مناسبة للشجار معي وينعتني بكل الألقاب ولكني في النهاية أدركت أني السبب في ذلك، فقد كنت أتعقبه  ولا أفوت له هفوة، وأخبر أمي بكل تصرفاته، وأكشف كل أسراره ولعله كان يحس بأني أضايقه على الدوام فقرر إزعاجي بأسلوبه الخاص، وكان ذلك حرصا مني على صلاحه، لكن سرعان ما تغير الوضع وكففت عن حصاره فكف عن إغضابي وصارت الأمور تحت السيطرة وعلاقة الأخوة حاضرة. 


بقي أخواي الصغيران، أختي دنيا التي أحسست أن الدنيا اهتزت طربا يوم ميلادها لا يمكنني وصف ذاك الشعور عندما عاد والدايا من المستشفى يحملانها، سارعت للبحث عن أخي وأنا أنادي عليه بأعلى صوتي وأقول: تعال بسرعة أمي أحضرت طفلة صغيرة رائعة..، وشعرت نحوها بالأمومة أكثر من الأخوة، كنت أهتم بها كثيرا وأعطف عليها فقد كانت تحتاج لرعاية خاصة، وفي المدرسة كنت أستاء عندما يعاملها الأساتذة بقسوة، وأتساءل كيف تغيب الرحمة عن قلوب المعلمين بعدما كنت أتخذهم قدوة؟، لكن معلمتي -حفظها الله- كانت تدعوها لقسمي وتلاطفها، وبين الخجل والضحك شهدت مواقف إنسانية وهزلية أعيد استذكارها مع الأسرة عند العودة للبيت فنضحك سن الجميع. 


وآخر إخوتي أو كما يقال آخر العنقود فاكهة البيت كان متميزا شكلا ومضمونا، اهتم الجميع برعايته فقد كان حبوبا وذكيا، وكم ذا أثار غضبي عندما كان يعبث بأشيائي، خاصة دفتري الخاص، لم أكن أفهم حينها أنه يحب رؤية الرسومات الطفولية  والاستمتاع بمحتواه، خاصة أنني أكتب به يومياتي، مغامراتي، وألصق بطاقات بريدية جميلة وذكريات حلوة، أدون به حكما وأمثالا، قصصا وأشعارا، لقد كان الفسحة التي يبحث عنها الصغار، فلم يكن خطأه أن أحب الاضطلاع عليه، وبين الحين والآخر كنت أشاركه اللعب وأصحبه معي لاقتناء حاجيات البيت من البقالة وأسعده بحبات حلوى، واليوم حينما كبر آثر بر الوالدين على كل مغريات بلاد الشرق والغرب وما بها من عروض مرفهة وعاد لأرض الوطن بعد سنوات من التميز في ديار الغربة حتى يؤنس وحدتهما ويقوم على شؤونهما وأذكر جيدا أول عبارة قالها عند عودته وهي " فجاهد فيهما".. 


هؤلاء هم إخوتي الكرام الذين ضمنوا مكانا لهم في لائحة مقدسات حياتي، وأفخر أننا من رحم واحد ويسري في عروقنا دم واحد ونشأنا في بيت واحد، ولنا روابط عديدة مشتركة أولها الملامح وحتى بعض الصفات، بدأنا حياتنا معا وعشت معهم أحلى أيامي رغم العواصف التي ألقت ببعضهم إلى أرض المهجر في زمن كنا فيه ضحايا من يتاجرون بأرواح الآخرين ويصنعون آلامهم وأحزانهم، ليرتقوا في المناصب ويجمعوا الثروات، يسكنون أفخم المباني ويسكن الخوف أحياء البسطاء الذين قٌدِّموا قرابين قرارات متهورة باسم حماية الوطن والنتيجة أمهات يبكين أبناءهن، وأباء مكلومين، يشهدون عن كثب مآتم بلا جنائز بعدما وسمت صفة المجهول الجثث ثم ووريت الثرى في الخفاء، فتهنا في دروب العمر، وافترقت أجسادنا، لكن أرواحنا مازالت مترابطة، حتى وإن لم نعد نلتق كثيرا ولا نتحدث مطولا كالسابق تظل علاقتنا نابضة بالحياة ممتنة فيما بيننا تؤنس المغتربين وتبعد شوق المقيمين، وتصل وحشة الراحلين بالدعاء والصدقات، ففي ديار الغربة أو في الوطن قد نشعر بالاغتراب بعيدا عن إخوتنا الذين قاسمناهم مرحلة الطفولة كلها.. لقد مرت تلك اللحظات التي استمتعنا فيها معا تسامرنا وتشاجرنا وشاغبنا يومياً واختلفت آراؤنا مرات لكن ظلت نعمة التوحد تجمعنا، كما وفرت لنا بساطة العيش الرغد والقناعة والرضا. 


من لم يشكر الناس لا يشكر الله، لهذا أشكركم إخوتي كبيركم  وصغيركم على كل ما حظيت به منكم ومهما كان بسيطا فقد أثر في جانب من شخصيتي ومساري وساعدني في تجاوز أوقات عصيبة احتاجت لسند حقيقي لتجاوز كل الأحاسيس المؤلمة التي تختلج في أعماقي، وأعتذر لكل واحد منكم تسبب له في أي أذى أو جرح بغير قصد، وعمل الشيطان أن ينزغ بين الإخوة لكن الاستغفار دائما ما يبطل عمله لينظف الأعماق ويطفو على السطح الحنين. 


لا يمكن نسيان تلك الأيام بذكرياتها السعيدة والحزينة بل والمخيفة أيضا فهي تظل محفوظة في الذاكرة كمخزون يقاوم النسيان كلما تقدم العمر وفرقت بيننا الحدود الجغرافية وازدادت مشاغل الحياة واكتظت جداول الأعمال، كما كان بيتنا مكتظا في الماضي ولا تتوقف به الحركة الدؤوبة وتتوق فيه ساعة قيلولة لإيجاد مكان لها، لقد ضاق المكان بمن فيه لكثرة الأفراد وأنشطتهم وظل لسنوات شبيها بخلية نحل، الجميع فيها منشغل بمهمة ولكنه اليوم بات هادئا متسعا، لا يسمع فيه ضوضاء.. لا ضحكات ولا بكاء أطفال، لا أصداء صوت إغلاق الأبواب وفتحها، لا هدّة ارتطام الأشياء بالأرضية، ولا حتى وقع النعال، ليظل وقع تلك الذكريات في خاطري يمدني بجرعات من هرمون السعادة كلما استحضرتها ويجعلني أتوق بشغف لأي مناسبة تجمعنا من جديد لنعيد بعض ما كان في لحظات لقاء أسري حميمي.. أو نصنع أحداثا مستحدثة لما سأكتبه مستقبلا إن شاء الله وأستهله بعبارة كان يا مكان إخوتي وأنا. 

تعليقات