أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

بعد رحيلك أبي

 بعد رحيلك أبي 

بعد رحيلك أبي

بقلم ليلى جبارة

ماذا عساي أقول بعد رحيلك يا أبي؟.. والكلمات باتت حائرة في تصنيف معانيها وإيجاد ترتيبها في الجمل المفيدة، لم تعد نبرات الصوت تليق بمقام شعور الفقد الرهيب بعد سنين الألفة والأنس. 


 


كلما أردت أن اقتلاع جذور الشوق المتشبثة بأعماقي أجدني أسقيها ودا وحنينا لتمد سيقانها وتخرج أوراقها وتزهر في موسم ذكراك الكبيرة، وبحزن يشوبه الفخر أقطف باقة معبقة بعطرك العتيق لأقطرها وأجعل منها مدادا لقلمي عله يستطيع جمع حروفي المبعثرة منذ رحيلك يا أبي.. 


 


 عبثا ما حاولت رسم معالم طريق جديد بعدك، فما أكاد أبدأ إلا وأجدني أكتب اسمك على لافتة شارعنا العتيد، وأستنير ببريق عيونك من عمود الكهرباء القابع في الزاوية منذ عقود، حتى قطرات المطر تحمل سماحة دموعك الندية لتذكرني كل مرة أنك كنت ذات يوم هنا لتمسح دمعي الذي صار ينزل خجِلا من يوم فراقك... 


 


أخذ الزمن من الأعمار ولم أتفطن له إلى حين لحظة وداعك فتهت في دروب الحياة أسعى لإيجاد مفترق الطريق وأغير وجهتي علي لا أشعر باليتم على كبر، لقد قيل أن اليتيم من مات أبوه وهو صغير فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، فلم ترى هذا الإحساس المؤلم الممزوج بالمرارة يملآ وجداني منذ رحيلك يا أبي.. 


 


لكن عزائي يظل في وصلك بالدعاء والتضرع لله والإلحاح في طلب المغفرة والرحمة لروحك الطاهرة لعل حبل البر بيننا لا ينقطع، وتطالني شآبيب الرحمة فتبتهج روحي مع تباشير الفجر الأولى ليغتدي الجسد بعزم سابغ بالثقة واليقين فأتعقب سيرتك العطرة بحسن الصنائع، وكلما انثنى عزمي وهاجت علي الوساوس أذكر نفسي وأهمس بأعماقي أنا ابنة أبيها ولا فخر. يتحدثون عنك ويقولون مرت سنتان على رحيلك يا أبي، وأنا الواهمة التي أطمع كل مرة أن تفتح لي الباب عندما أطرقه لأسمع الجملة المعتادة:" إلا ليلى التي لا تصبر عن أبيها.. ههه" أو كما تقولها باللهجة الأمازيغية:" ألا ليلا وانصبرر أف فافاس"،  فيهتز كياني سرورا، ويضع نجمة بداخلي لتعزيز معنوياتي باستمرار، لكنها اليوم باتت ذكرى تؤرقني وتمنعني من التعود على غيابك وتزيد من حاجتي إليك.  


 


طمعي لم ينته وسعيت للاستئثار بميراثك كله، ولكنها العدالة الإلهية في تقسيم الأرزاق، فنال هذا الطبية، وذاك سعة الصدر، وتلك الاحترام والهيبة، والآخر التجاوز والعفو، والأخرى الابتسامة والسماحة، وهكذا أخذ كل واحد منا نصيبا مما خلفته من مكارم ورفعة، ولكننا جميعنا حظينا بالسمعة الطيبة منك وتشاركنا فيها، فكان فخرا لنا أن نقرن أسماءنا باسمك الكريم ونقول باعتزاز هذا والدنا، نعم .. إنه الرجل الذي عاش عزيزا ومات حميدا -طيب الله ثراك وأكرم مثواك-.  


 


الموت حق والمسافة بين عالمينا حتم لا يمكن قطعه إلا بكتاب، غير أني ما زلت أطمع في المزيد، وأظنني أشاركك السمر كلما غفوت، وأتلمس ملامح وجهك برفق، وأبحث عن حضنك في كل صوب وأشم عطرك حينما ألج باب غرفتك وكأني طفلة صغيرة رغم كبر سني، لكنه الاشتياق الذي لا يعترف بكينونة العمر، علِّي لا أحرم وصلك ولو بالإيحاء يا أبتي.  


 


كلما زادني ألم الشوق وهاجت بي مشاعر الحزن استذكرت قول الله تعالى:" (( إن لله وإنا إليه راجعون ))، فتتلاشى مآسي وتصغر هيبة الموت أمام قوة اليقين، وألتزم الصواب والحكمة وأكف عن الطمع برجوعك لكني أتأمل لقاءك يوما بالرقي في مراتب الصبر إلى حين يكون اللقاء الأبدي، أسأل العلي القدير أني يجمعنا بك في الفردوس الأعلى. 


 


ما زلت أذكر دائما أقوالك الحكيمة ومنها:" إعط فالله يعطي"، "المكسب الحلال نعمة، والمال الحرام ظلمة إياكم والمال الحرام"، لقد حفظت عن ظهر قلب كل أقوالك واتخذتها مبادئ أساسية في الحياة.. فمضت روحي تتسامى ومواقفي ترتقي بملامسه أصدق الأحاسيس، واستضاء الكون من حولي وازدهت سمائي الممتدة بشريط ذكراك يمر كل  لحظة وحين ليتجلى ضوء النهار وينجلي معه كل حزن واغتمام من غير تحامل أو نقمة على الرحيل. 


 


ما يسعني إلا الدعاء لك بصدق غفر الله لك وتجاوز عنك، وجزاك عنا كل خير، فقد كفيت ووفيت وكنت السند المتين، الزوج الصالح والأب المثالي، الجار الحسن، والقريب المخلص، أسكنك الله من حيث أسكن النبيين والصديقين والصالحين ورحم الله عبدا قال آمين. 

تعليقات